مشهد طُبع في ذاكرتي الشعورية برغم مرور السنين؛ إلا أنني لا أزال أذكر مشاعر التوتر والقهر فيه..
فعندما كنت في الثانوية، كانت معلمة الرياضيات بعد نهاية الدرس تكتب مسألةً للتطبيق، والطالبة الأسرع في الحل تكتب المعلمة على ورقتها رقم "١"، ومن ثم تليها رقم "٢"، وهكذا حتى رقم "٥"!.
وشدة التنافس والتوتر كانت تطغى في نهاية كل حصة رياضيات..
كم كنت أكره تلك اللحظات؛ إلا أنني كنت أجد نفسي أخوض فيها رغماً عني بدافع الجد والاجتهاد والحماس المزيف.
مع الأسف كنت أحل المسائل بطريقة صحيحة ومنظمة؛ ولكن لم تكن بالسرعة الكافية لأحصل على رقم "١".
وفي كل حصة يتكرر الصراع والمحاولة لأصل إلى رقم "١"؛ ولكن دون جدوى؛ فما زال الرقم الذي يدوّن على دفتري هو "٥"، وإن حالفني الحظ أصل إلى "٣".
بدأت أكره المادة والمعلمة كذلك.. إلى أن انتهى العام وتركت تلك المعلمة المدرسة لحسن الحظ؛ لنحظى بأخرى بسياسة مختلفة أعادت لي حب الرياضيات في آخر عام قبل أن أتخرج.
وفي مفارقة أعادت لي تلك المشاعر؛ كنت البارحة أتصفح كتاب مادة العلوم لولدي في الصف الرابع، لأتابع مستواه وتقدمه.. لاحظت بعض الصفحات تحوي نجمة، وأخرى نجمتين! ولاحظت أمراً أهم من ذلك وهو تدني مستوى خطه في تلك المادة مقارنة بالمواد الأخرى..
بادرت بسؤاله عن سبب وجود نجمة في صفحة ونجمتين في أخرى؛ فقال: "لأن المعلم يضع خمس نجوم للأسرع في نقل الإجابة من السبورة، ثم يصبح صاحب العدد الأكبر من النجوم في آخر الأسبوع هو القائد في الصف".
وطبعاً كان القائد هو نفس الطالب لكل أسبوع!
اتضح لي عندها بلا شك سبب تدني مستوى الخط؛ فالهدف لم يكن الفهم أو الكتابة بوضوح؛ بل كان سباقاً من أجل النجوم!!
أتساءل هنا.. ماذا حقق هذا المعلم بتلك النجوم؟ وأترك لكم الإجابة..
لم أرد أن يعيد التاريخ نفسه، وأن يشعر ابني بمشاعر الإحباط التي حملتها لسنوات.. ولحسن الحظ كنت أحتفظ بدفتر الرياضيات ذاك؛ فأحضرته وفتحت الصفحات لأحكي له حكاية الرقم "٥"، وعن شعوري وإحباطي برغم صحة الحل، وكيف أني اتخذت القرار أخيراً بأن أهتم بجمال خطي وترتيب دفتري وفهم الدرس بغضّ النظر عن الرقم.
ثم تناولت كتاباً آخر له وقلت له: قارن بين خطك في الكتابين، ما رأيك؟ هل تريد أن يستمر خطك في الانحدار حتى تفقد ذاك الجمال؟ فبادرني بقول: لا، فقلت: إذن لا تهم النجوم بقدر ما يهم جمال الخط وترتيب الكلام والفهم قبل كل شيء.
أتقن عملك يا بني ولا تتسرع من أجل نجوم ستحول خطك الجميل لخط فوضوي، وتتحول حصة العلوم الممتعة لسباق من أجل لا شيء.
والجميل أنني سألته بعد أسبوع، كيف هو حال النجوم؟ وسعدت كثيراً عندما قال: لم أعد أهتم بها.
كم سرتني إجابته، وأتمنى أن يكون قد تعلم درساً؛ فلا أستطيع تغيير أسلوب كل معلم يقابله؛ ولكن يمكنني تغيير قناعة ابني على الأقل بأن السرعة في حد ذاتها ليست هدفاً، وبأن ما يهم حقاً هو كفاءة أدائه وليست سرعته على حساب المستوى.
ولكل أم وأب أقول: أدركوا أبناءكم وكونوا عوناً لهم لا عليهم، شجّعوهم وعززوا ثقتهم في أنفسهم؛ فقد يخفق المعلم أحياناً؛ فلا تتركوا أبناءكم ضحية للأساليب الخاطئة، ادفعوا بوعيكم ما قد يفسده بعض المعلمين بحسن نيتهم.
همسة:
لكل معلم يظن أنه يحفز طلابه بالنجوم أقول: إنك تحفّز طالباً واحد أو اثنين وربما ثلاثة لا أكثر؛ ولكنك في الحقيقة تُحبط البقية!
فعادة مثل هذه المنافسات الرخيصة؛ أن المتميز فيها غالباً يكون نفسه؛ تاركاً بقية الطلاب في حسرة وقهر وإحساس بالدونية..
أتمنى أيها المعلم الفاضل أن تجد طرقاً تربوية أكثر لإشعال الدافعية للتعلم بدلاً من قتلها..
لتحفيز التعاون والحماس بدلاً من إيجاد التنافس المذموم.
فبلا نجوم سيصبح الطفل قمراً..